إنّا لله إنّا اليه راجعون
أزفت ساعة الوداع, وحان موعد الرحيل.كان الجميع يلتف حول عمي يودعه بنظرات غريبة. وأخذت حشود المودعين له تزداد شيئا فشيئا وذلك رغم درجة الحرارة الملتهبة , فقد انتصف نهار الصيف.
خرج عمي من باب داره وهو يرتدي لباسه الأبيض كالعريس ورائحة عطره تشمها عن بعد. ضحكت في نفسي ضحكة لم أعهدها من قبل ثم أردفت قائلا : مين كدك ياعم , عريس.
آه منكم ياأخوتي لم يخبرني أحد منكم بنية عمي على الرحيل لكنت عجلت بالسلام عليه قبل الجميع.
خرج عمي وقلوبنا تتبعه ورعشات أطرافنا تهفو نحوه, و لم أعد أدرك من كان يقف بجانبي أو يزاحمني بكتفه.
التفت عمي للخلف وكأنه يودع في هذه اللحظات داره بكل مادار فيها من أحزان وذكريات مبهجة.
بدأت تعلو بعض الصيحات, الله معاك ياحج.
عندها تمسمرت قدامي في الأرض وأصبحت أطرافي باردة كأنها مشلولة لا تقدر على الحركة وتسارعت دقات قلبي كأنها في سباق مارثوني.
أغمضت عيناني طأطئت رأسي للأسفل خجلا .
لم أستطيع توديعك , فقد وهن قلبي وقيدت بسلاسل متينة تكوي جسمي وكأنها قطعة من الجحيم.
في تلك اللحظات أصبحت بمنفى , بل في عدم , لا بل في كوكب آخر , لا أدري .
كل ماأدريه هي تلك المشاهد التي قد بدأت استرجعها من ذاكرة الطفولة . كتلك التي سألت فيها أمي من اطلق عليا هذا الاسم , فتجيبني عمك الحجي, فقد توفي ولده يوم ولدت فأسماك هو على اسمه. وقتها فقط أدركت سبب حبه وشغفه بي.
آه ياعم أتذكر عندما كنت أعود من المدرسة وقد حصلت على تسعة في الاملاء فيوبخني الجميع في البيت , فترد عليهم قائلا أي شنهو يعني التسعة أخت العشرة.
عمي بتذكر لما كنت تلبسني الجمدانة والعقال وتتباهى بيا أمام أهل القرية.
عمي انتظر قليلا . لقد جلبت لك قرآن بالقطع الكبير كي تستطيع القراءة منه دون أن تؤذي عيناك. بالله عليك أقرا منه ولو آية ثم أرحل.
عندها فأجأني صوت زغاريد وداع ممزوجة بالحزن فصحوت من غفوتي .
أدركت عندها بأن عمي لم يسافر بل انتقل إلى جوار ربه.
انطلق موكب التشييع , انفجرت في بدني قوة عارمة فركضت نحو عمي صارخا , دعوني أحمل عمي على كتفي فأنا أحق بكم منه.
تسابقت الدموع على وجنتي وماعهدتها في حياتي .
جفت الدموع على الخدود ولكن هيهات أن تجف في القلوب.
