وكانت حروبه هو والخوارزمية الذين معه حروبًا شرسة مفسدة، مع أن البلاد المغنومة كلها بلاد إسلامية..! فكان يفعل بهم الأفاعيل من قتل وسبي ونهب وتخريب.. وكأنه تعلم من حروبه مع التتار كيف يقسو قلبه بدلاً من أن يتعلم كيف يرحم الذين عُذبوا منذ شهور وسنوات على أيدي التتار.. ثم بسط جلال الدين سيطرته على مملكة الكرج النصرانية بعد أن أوقع بهم هزيمة فادحة، واصطلح مع أخيه غياث الدين صلحاً مؤقتاً، وأدخله في جيشه، ولكن كان كل واحد منهما على حذر من الآخر.. وبذلك بلغ سلطان جلال الدين من جنوب فارس إلى الشمال الغربي لبحر قزوين، وهي وإن كانت منطقة كبيرة إلا أنها مليئة بالقلاقل والاضطرابات، بالإضافة إلى العداءات التي أورثها جلال الدين قلوب كل الأمراء في الأقاليم المحيطة بسلطانه بما فيهم الخليفة العباسي الناصر لدين الله.. وسياسة العداوات والمكائد والاضطرابات هي السياسة التي ورثها جلال الدين عن أبيه محمد بن خوارزم وتحدثنا عنها من قبل.. ولم تأت إلا بالويلات على الأمة.. وليت المسلمون يفقهون..
وفي آخر سنة 622 هجرية توفى الخليفة الظالم الفاسد الناصر لدين الله، بعد أن حكم البلاد سبعة وأربعين عاماً متتالية، وكان قبيح السيرة في رعيته، فقد خرب العراق، وظلم أهله، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وطفف لهم في المكاييل، وفرض عليهم الرسوم الجائرة، والأحكام الظالمة.. وفوق كل ذلك ارتكب الذنب العظيم الذي تصغر بجواره كل ذنوبه وهو مراسلة التتار، ومحاولة التعاون معهم ضد المسلمين.. أحداث سنتي 623 و624 هجرية: تولى الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله الخلافة العباسية، وكان على النقيض من أبيه تماماً؛ فقد كان رجلاً صالحاً تقياً أظهر من العدل والإحسان ما لم يُسبق إلا عند القليل، لدرجة أن ابن الأثير قال: "إنه لو قيل: إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً"، فرفع الضرائب الباهظة، وأعاد للناس حقوقهم، وأخرج المظلومين من السجون، وتصدق على الفقراء، حتى قيل في حقه: إنه كان غريباً في هذا الزمان الفاسد.. ولقد قال فيه ابن الأثير- وكان معاصراً له- كلمة عجيبة، لقد قال: "إني أخاف أن تقصر مدة خلافته؛ لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته!!".. إلى هذا الحد كان المجتمع فاسدًا؟؟! وسبحان الله.. لقد صدق حدس ابن الأثير، وتوفي الخليفة الظاهر بأمر الله سريعاً! ولم يحكم المسلمين إلا تسعة شهور وبضعة أيام فقط، ومع ذلك فكما يذكر الرواة: رخصت الأسعار جداً في فترة حكمه, وتحسن الاقتصاد في العراق.. وهي إشارات لا تخفى على عاقل.. والحمد لله الذي وضع في الأرض سنناً لا تتبدل ولا تتغير... فهل من مدّكر؟!! وتولى الحكم بعد الظاهر بأمر الله المستنصر بالله, والذي ظل في كرسي الحكم حتى (سنة 640 هـ) أي حوالي: سبعة عشر عامًا وفي هذه الأثناء كان جلال الدين يستمر في حروبه في هذه المنطقة ليس مع التتار, ولكن مع المسلمين!! واستولى على بعض المدن والأقاليم، وكان من أبشع ما فعل هو حصاره لأهل "خلاط" أو "أخلاط" وهي مدينة مسلمة (في شرق تركيا الآن)؛ فقد قتل منهم خلقاً كثيراً، وامتدت أيدي الجنود الخوارزميين إلى كل شيء في البلد بالسلب والنهب حتى سبوا الحريم المسلمات!!!.. والحق أني لا أجد تفسيراً منطقياً لهذا التردي في الأخلاق، والتردي في الفهم، والتردي في السياسة، والتردي في الحكمة... ولولا أن هذا مسجل في أكثر من مرجع ما قبله عقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!.. ثم حدث أمر هام جداً ومحوريٌّ في سنة 624 هجرية وهو وفاة القائد التتري المجرم السفاح جنكيزخان، عن عمر يناهز اثنتين وسبعين سنة ملأها بالقتل والذبح وسفك الدماء والسلب والنهب، وبنى خلال فترة حكمه مملكة واسعة من كوريا في الشرق إلى فارس في الغرب.. بُنيت هذه المملكة على جماجم البشر، وعلى أشلائهم ودمائهم.. (ومعظمهم من المسلمين!) ولكن اللوم كل اللوم على من وصل إلى حالة من الضعف مكنت مثل هذا الفاسد من أن يفعل في بلاد المسلمين ما يشاء.. وبموت جنكيزخان هدأت الأمور نسبياً في هذه المنطقة، واحتفظ التتار بما ملكوه من بلاد المسلمين إلى وسط إيران تقريباً، بينما كان جلال الدين يبسط سيطرته على المناطق الغربية من إيران والمناطق الغربية من بحر قزوين.. وكأن كل طرف قد رضي بما يملك، وآثر الاحتفاظ بما يعتقد أنه حق له.
مواقع النشر (المفضلة)