ولكون الأمر في حق داود لا يقل غرابة عما كان في حق زكريا فقد استوجب هو الآخر تسبيحا وتنزيها لصاحب القوى والقدر جل جلاله، وعن غرابة ما في أمره يقول سبحانه:
(إنا سخرنا الجبال معه)
أي جعلناها مصاحبة له منقادة ذلولا كالجمل الأنف
(يسبحن بالعشي والإشراق).
وقد تباينت كلمة أهل العلم في شأن التسبيح في حق هذين النبيين المباركين
-عليهما وعلى نبينا أفضل السلام وأزكى التسليم - فارتأى بعضهم أن المراد بالتسبيح في حقهما هو التسبيح اللساني بقول (سبحان الله)، فحملوا بذلك، الأمر على ظاهره والوجه فيه بمقتضى قولهم، أن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول
(سبحان الله .. سبحان القادر المقتدر).
وهكذا كان الأمر في حقهما فزكريا- عليه السلام - لما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر، عجب من ذلك فسبح وأمر قومه بالتسبيح، وبمثل ذلك فعل داود عندما عاين الجبال تؤوب معه وتشاركه - بطريق الاقتداء به - عبادة الله تعالى وتقديسه.وذهب الراسخون منهم إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة
(1)وهذا يعني أن ثمة صلاة خاصة بهم كانت تؤدى - كما سبقت الإشارة - في هذين الوقتين، بواقع ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، والظاهر أن هذه من بقية ما ورثوه عن إبراهيم - عليه السلام - .
وقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه، يقتدي بهما وبه في صلاته طوال فترة بقائه بمكة قبل أن تفرض عليه الصلوات الخمس، لكونهما ولكونه داخلين فيمن قال سبحانه في حقهم آمرا
(أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام/90)
يقول البوطي : كان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء(2)
كما كان يفعل إبراهيم - عليه السلام - (3).
(1) الآلوسي 16/103 مجلد 9.
(2) والزعم بأنهما كانتا ركعتين في أي وقت اتفقت كما روي عن الحسن
[ينظر الكشاف 3/217والآلوسي 21/44 مجلد 12، 24/118 مجلد 13 والبيضاوي
وحاشيته 7/380 ،8/274]
يرده تعيين وقتيهما بالعشي والإبكار... وما ذكر في نظم الدرر من أن الصلاتين كانتا الصبح والعصر، وأنه لم يكن أمر في أول الإسلام بغيرهما، وبهما أمر من كان قبلنا، وهما أفضل الصلوات، وكانتا ركعتين ركعتين
[نظم الدرر 8/276]
يرد عليه ما جاء في آية (ص) من قوله تعالى :
(بالعشي بالإشراق)
إذ من المعلوم أن الصبح إنما يكون قبل شروق الشمس.
(3) فقه السيرة ص116.
مواقع النشر (المفضلة)