تتراكض الإبتسامة إلى شفاهك أحياناً أمام منظر طفل صغير يحبو … أو زهرةٍ عَطِرة تتمايل مع النسيم أو حمامة بيضاء تهدل .. أو إمرأة فاتنة تخطر أمامك … السبب الأخير أظهر أسنانه التي لم تكن ناصعة البياض ولا غاية في الإنتظام ، رمقته – تلك الفاتنة – وهي تتناول بطاقتها – بنظرةٍ هي مزيج من الدهشة والإستغراب والسؤال والقرف وأدارت ناظريها عنه وهي تدس البطاقة في حقيبة يدها الجلدية السوداء … ثم سارت تخطو خطو الغزال ، خيل إليه أنه سمعها تهمس ……
(( سخيف )) ……..
شلال من الذهب كان يتدفق من قمة رأسها حتى نهاية عمودها الفقري حيث كان يتطاير في الفضاء …وخُطىً بمنتهى الثقة والدلال وثياب صيفية زرقاء وغاية في الأناقة والذوق
وظل يرقبها مشدوهاً حتى خرجت من باب المكتب .
- بطاقتك الشخصية يا سيدي (( أعطى الموظف هويته ولما ينظر إليه بعد ))
- الى أين ؟!
- دير الزور ….
- متى ؟!
- اليوم .. الساعة الواحدة ليلاً ..
ونظر لساعة يده … (( الحادية عشرة والنصف ليلاً …)) بدأ الموظف يدون المعلومات على بطاقة ورقية صفراء صغيرة ( الإسم – جهة السفر – رقم المقعد ) فيما كان هو يضع المبلغ على الطاولة … وفي الخارج كان الهواء منعشاً … محملاً برطوبة لذيذة … السماء صافية مقمرة والليل يدعو للتسكع ..
دمشق هي جنة الدنيا حقاً .. وهز رأسه بقناعة راسخة وهو يتذكر قول الرشيد .. (( جنان الدنيا أربع " دمشق والرقة وري وسمرقند "
دمشق رائعة وجميلة جداً .. هذا صحيح .. لكن لجمالها في الليل طعم أخر وجو أسطوري يحملك لليالي شهرزاد … هذه المدينة لا تعرف النوم أو الهدوء إلا قليلاً .. وسيانٌ لديها الليل والنهار ، أين منها مدينتي التي تغفو كطفلة صغيرة على كتف الفرات والشمس لم تلملم بعد أخر أشعتها عن وجه البحيرة …
صعد الدرج ووقف قليلاً على حافة جسر السيد الرئيس ثم أتجه جنوباً نحو البرامكة وأنعطف شرقاً وسار بعدةِ أزقة من أزقة دمشق حتى وجد نفسه عند مقهى الحجاز . وهمَّ بأن يسير شرقاً تجاه سوق الحميدية ، لكنه فضل أن يمر بساحة المرجة ولم يدري كم مضى له بالضبط من الوقت و لا أياً من الشوارع إجتاز حتى وجد نفسه في الصالحية .
دفع الباب .. دخل لمقهى الهافانا .. نظر لساعة يده بعد أن طلب فنجاناً من القهوة السادة ((لم يتبق الكثير ..))
شرب الفنجان دفعة واحدة .. ونظر علهُ يعرف أحد هؤلاء المشاهير فهو طالما سمع أن هذا المقهى ملتقى لكثير من الأدباء .ليلة البارحة قال له صديقه أنه رأى فيه عبد الوهاب البياتي ومظفر النواب .قد يكونوا أحد هؤلاء الرواد .. ربما...
مازالت رائحة القهوة تعبق في أنفه ونكهة القهوة تبعث النشاط فيه .
أقدامه التي حفظت طريق العودة كانت تقوده دونما تفكير منه .. كان يفكر بشيء أخر … (( فراق دمشق )) .. لكم يعز عليه هذا الفراق ..
تغمره السعادة عند اللقاء وهو يرى أنوار قاسيون تلتقي مع نجوم السماء حتى لكأنك تحسب النجوم تتساقط فوقه
و آلمٌ كبير يغمره عند الفراق وهو يرى قاسيون يشمخ عالياً عالياً … وقد إلتف بعبائة ٍ سوداء نثرت الآلهة عليها ما إستطاعت من القطع الذهبية …
الوقت في دمشق يمضي كما البرق . سوى الساعة الأخيرة فيها … تكون بطيئة .. باردة محملة بالحزن .. والآلم..
- (( لم أتأخر كثيراً )) –
لم يقلها – لكنه كان يفكر بها عندما رأى – من خلال الزجاج – رؤوس الركاب وقد ملأت كل المقاعد .. لم يفطن لها إن كانت جميلة أو..لا .. حزينةٌمثله بفراق دمشق أو لا …… كانت رؤوساً وكفى …
صعد الدرجات الثلاثة التي وضعت عند الباب الأمامي ووقف في بداية الممر تماماً ضوء أزرق خفيف هادى بارد عميق غمرةُ …
أحس أن كل العيون تنظر إليه بلا مبالاة – لا تعجبه نظرتها إليه
إرتباك
– وجدها في أخر جيب – كالعادة – البطاقة – بطاقة السفر
أخرجها .. مع عدة أوراق غير مهمة – فاتورة هاتف – ماء – وصفة طبية – عنوان صديق .. بدأ يبحث عن المقعد رقم (21 ) تقدم ببطئ حاملاً بطاقته بيده ينظر إليها .. 17 .. 18 .. 19 .. 20 .. 21 ونظر كالمصعوق .. جحظت عيناه جمد في مكانه .. يا للحظ
أي صدفة – أي صدفة سعيدة
ستكون رحلة رائعة .. ألقى – برفق – هيكله الضخم في المقعد ..
على يمينه تماماً وعلى بعد عدة سنتمترات بل مليمترات .. كان شلال من الذهب يتدفق من أعلى رأس حسناء ساهمة عنه وربما عن العالم كله تنظر عبر الزجاج النظيف للباص لشيء غير محدد – لم يرَّ ذلك الشيء غير المحدد لكنه إستنتجه –
الضوء الأزرق للقميص كان صارخاً .. دافئاً .. حاراً .. يكاد يحترق .. لن ينظر إليها – إيتيكيت – لن ينظر.. لن ينظر .. إلتقت العيون ..
(( لقد نظر ))
نظرت (( هي ))
دهشة .. إستغراب .. سؤال .. قرف .. نفس النظرة التي حفظها
(( من أين جاء .. متى جاء .. سخيف ..))
خياله يتوقع أسئلةًتدور بخيالها يخجل من نفسه .. لن ينظر مرة أخرى .. أغمض عينيه …
(( أي عينين .. عيناها؟!.. ))
يا إلهي .. لم أرَّ لهما شبهاً لم أتخيل لهما شبهاً .. ليس لهما شبه .. بلون الربيع .. بل ربيع أبدي .. لا يعرف الشتاء ، مرجين أخضرين لا حدود لهما .. حقلي قمح بأول نيسان ، قطعتي زمرد وضعتا بعناية على كومة ثلج تشوبها صفرة خفيفة لا تدل على مرضٍ أبداً ..
نخلتين منفردتين زرعتا على أحد شواطئ هاواي الذهبية – لا تنسى القميص الأزرق –
* * *